مقاربات سيميائية في فن الاثار الكنعاني وعلاقته بتمثلات الارث التوراتي
من المتفق عليه بين علماء الآثار وعلم الاجتماع والانثربولوجيا، أن كل جماعة بشرية لها مقومات أساسية تميرزها عن بقية الشعوب والأقوام التي نشأت بينها، لذلك بعد دراسات مطولة في موجودات الشعوب، استطاع العلماء أن يمتلكوا تصورًا عن خصائص كل حضارة ومنها القديمة أيضًا من خلال مخلفات شعوبها المادية، وهذه الموجودات تتعلق بشكل أساس بالمعمار وخاصة الدينية، وطريقة اعداد الطعام، إلى جانب شكل المدن أو البلدات، والطقوس الدينية، من خلال ما تركه أولئك الأقوام في معابدهم أو كتاباتهم أو عملتهم وغيرها الكثير، وباعتبار أن التوراة تكلمت عن ممالك يهودية كبرى كانت ذات ثقل على المستوى المحلي، فيحتم ذلك ايجاد بعض العناصر الأركيولوجية التي تتعلق بتلك الحضارة ومنتجاتها، في طبقات الأرض، أي أرض فلسطين، ولكن لم يجد علم الآثار أي موجودات مادية ذات اختلاف عن ما تركه الكنعانيون ومن تلاهم من شعوب ذات بصمة واضحة بالتاريخ، فلو كانت المملكة اليهودية حقيقة فأين ذهب موروثها؟
كل ما نسبه اليهود إلى حضارتهم أو انتاجهم الأثري كان متواجد في بنية التاريخ الكنعاني، فهل هذا تقارب أم سرقة، كل مقاربات علم الاثار الحديث أقرت ةأعترفت بأنه لم يكن لليهود فنون، ولا علوم ، ولا صناعة، ولا أي شئ تقوم به حضارة خاصة بهم ميزتهم عن غيرهم، وكانت بارزة في التاريخ، مما رجح أن اليهود قد ظلوا حتى في عهد ملوكهم: بدويين خاليين من أي انتاج معرفي أو ثقافي.
ظهر الموروث الحضاري اليهودي بشكل حديث جدًا بعد انتشار حركة الاستشراق الاثري التوراتي، الذي أتى بعد أن مول الغرب بعثات أثرية لتبحث عن التوراة، وهذا ما ذكره زملائي سابقًا، ولنؤكد أن اليهود شعب بلا حضارة أو أي هوية ثقافية، وهذا ما يثبت عدم امتلاكهم لأي ممالك أو مدن كبرى خاصة بهم، سأقوم بتقديم مقاربة بين ما يدعي اليهود أنه هوية خاصة بهم، وما اثبت علم الآثار من موجودات تم نسبها للحضارات السامية العربية كالكنعانية والاشورية وغيرها، لنستدل على سرقة التاريخ وهوية الغير.
في البحث عن نشأة اللغة الكنعانية فنذكر أن بعض المستشرقين كانو يطلقون على العبرية والارامية اصطلاح (لهجتي اللغة الكنعانية) وكل ما يمكن ان يقال في هذا الشأن ان اللغة العبرية واللغة الكنعانية كانتا لغة واحدة لهجت بها تلك الامم التي كانت تسكن فلسطين وطورسينا في مدى قرون معينة، ولكن سبب نسب اللغة العبرية (اللهجة الكنعانية) إلى اليهود هو كتابة اليهود لنصهم المقدس الأول في تلك اللغة، في حال ذابت اللغة الكنعانية في اللغة الارامية والسريانية ثم اليونانية والرومانية وأخيرًا العربية، وكتاب اليهود المدون في تلك الحقبة هو من جعل تلك اللغة ترتبط بهم، دون سواها.
من أقدم النقوش التي تمتد لتلك الحقبة هو حجر سلوان (700 ق.م) التي يدعي اليهود أنه متعلق بفترة الملك حزقيال ومكتوب حسب ادعائهم بالعبرية القديمة، ولكن علم الآثار أثبت أنه كتب بالحروف الأبجدية الفينيقية التي لا تحتوي على حروف العلة وهذا الأسلوب في الكتابة يتماهى مع كل موجودات الاثار في بلاد الشام التي تمتد لتلك الحقبة. نلاحظ الشكل 1 لنص سلوان ويليه نقش كنعاني أقدم منه عمره تقريبًا 900 ق.م، وهذا يدل على أصل اللغة.
واذا تطرقنا الى العملة المستخدمة بالوقت الحالي ( الشيكل ) والتي ينسبها اليهود الى حضارتهم وتاريخهم ، وهي في الحقيقة ( زهرة الزنبق ) التي كانت على العملة الكنعانية ، حيث تم استخدم على نطاق واسع في فلسطين التاريخية ، حيث استخدمه العموريون-الاكاديين-الموأبيين-الادوميين-الكنعانيين-حيث كان الشيكل عملة مشتركة بين الشعوب السامية
صورة لشيكل كنعاني عمره 3000عام ، اي قبل دخول بني اسرائيل ب1500عام ،كانت الموازين تحدد في القدم بأشياء ثابتة ومتداولة مثل الحبوب، فكان (الشاقل) الشيكل يساوي ثقل 32 حبة شعير، وبمرور الزمن تطورت فيما بعد وحلت محلها المعادن الثمينة. وكان يستخدم الميزان ذو الكفتين، ووجد العديد من هذه الوحدات والتي كان يحملها التجار الكنعانيون معهم أثناء تجوالهم وتبادلاتهم التجارية، والشيكل يعني شاق ايل (العمل الشاق للاله ايل) وتعطى بدل تعب الفلاحين الذين يعملون في حقول الاله ايل.
النجمة السداسية لأول مرة ظهرت في حضارة بلاد الرافدين في 2500 سنة قبل الميلاد أي قبل الديانة اليهودية، كما تواجدت النجمة السداسية في عدة حضارات مثل حضارة بلاد الإغريق، كما أن هذه الزهرة متواجدة بكثرة في المعمار ذا الطابع الأندلسي برأس الجبل و شوهدت في مداخل الأبواب وسدة النوم على اليمين واليسار، في الحضارة الكنعانية وفي حضارة أوغاريت كان المثلث الذي رأسه يتجه إلى الأسفل يرمز إلى الأنوثة والمثلث الذي رأسه يتجه إلى الأعلى يرمز إلى الذكورة وبتداخل المثلثين تولد الحياة.
عندما غادر اليهود بابل كانوا متأثرين جداً بالحضارة والعبادات البابلية وقد أخذوا معهم الكثير منها وهذه النجمة السداسية العشتارية رمز الخصب والحياة والحكمة هي أكبر مثال على ذلك، لم تصبح نجمة داود رمزا إيديولوجيا ودينىا لليهود إلاّ في العصر الحديث و تحديدا منذ أواخر القرن 18 بعد أن أتخذتها الحركة الصهيونيّة شعارا لها و تعاظمت رمزيتها بعد الحرب العالمية الثانية مع إنشاء دولة إسرائيل حيث أصبحت رمزا لها.
العمارة (هيكل سليمان أنموذجًا).
اما بخصوص هيكل سليمان، فالعديد من الدلائل تنفي أن يكون قد بني في القرن العاشر قبل الميلاد، لأن إعاده تصوره على الورق اعتمادًا على وصفه الوارد في سفر الملوك الاول وبعض مقاطع من سفر حزقيال ، تضع امامنا مخططا لمعبد سوري تقليدي، من المعابد المكرسة لالوهية الخصب، والتي شاع بناؤها في بلاد الشام بين أواسط الالف الثاني وأواسط الالف الاول قبل الميلاد . يعرف هذا المخطط لدى علماء الاثار بنمط المعبد السوري التناظري ، وهو يتالف من المحراب \القاعة الرئيسية\مدخل \ اعمدة.
الموروث الأدبي:
من خلال هذه المقاربة في فن الكتابة، سنبرز التشابه الكبير بين اله العهد القديم (يهوه) والاله الكنعاني ( بعل )!!
ركوب الغمام
ركوب الغمام تلك أحد الصفات الرئيسية للإله "بعل" في نشيد بعل:
(بعل)
(إني أقول لك أيها الأمير بعل، إني أكرر يا فارس الغيوم: هوذا عدوك يا بعل. هوذا عدوك سوف تقتله؛ ها أعداؤك سوف تفنيهم؛ ولسوف تفوز بالمُلْك إلى الأبد، وتبسط سيادتك على الكل دوماً)
(يهوه)
الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ. الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ.
البانِي عُلّيَاتِه على المِياه الجاعِلُ الغَمَامَ مَركَبَةً لَه السَّائِرُ على أَجنِحَةِ الرِّياح.
إدمان الخمر:
هنا يشرب بعل الخمر في مآدبة على شرفه، ومن ثم يقلده أيضاً يهوه ويشرب الخمر مثله بل ويصل به إلي حد الإدمان!
(بعل):
" يضع الكأس بيده ويرويه،
مغرفة بكلتا يديه،
دن من السماوات،
كأس مقدسة
ما رأت مثلها ساقية
وقعت عليها عين
ولا إلاهة.
ألف جرة خمر أخذ،
ومزجها مزجاً وسكب".
(يهوه)
لأَنَّ فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ.
فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ.
من خلال ما سبق نستطيع أن نمتلك تصور عن مدى التشابه الكبير بين ما انتجته الميثيولوجيا الكنعانية القديمة، وبين ما تحتوي عليه التوراة التي كتبت بفترة زمنية متأخرة جدًا، ومن هنا ندرك مدى تفاعل النص التوراتي مع ما سبقه من منتجات ثقافية، وسرقة مضمونها ونسبها إليه، مع أنها متأصلة بالثقافة الكنعانية بتتابع الزمن.