على الرغم من أن الحدود الفاصلة بين روايات الخيال المطلق وروايات الواقع أو الروايات غير الخيالية واهنة جداً، فإن ما يميز رواية الخيال هو القدرة الفذّة على الخلق الإبداعي وتشييد عوالم جديدة واستنباط شخصيات مبتكرة نتيجة اشتغال التخييل البحت الذي قد يصل حدّ الإعجاز أحياناً، إذ يستخدم الكاتب-الراوي في هذا النوع من الأدب مجموعة من التقنيات الفنية لنسج الأحداث ورسم الشخصيات الخيالية ووصف ما تقوم به من أعمال، إضافة طبعاً إلى التحكم بلغة الحوار وإدارة الأحداث، وهذه التقنيات بمجملها تشغل مساحة واسعة من الفضاء السردي. و في كتاب مذكرات كلب مزجت الكاتبة بين الخيال و السيرة الذاتية حيث جاءت المؤلفة متخفية وراء قناع الراوي المتخيل واستخدمت مجموعة من التقنيات الفنية التقليدية لنسج الأحداث، تتساءل من خلالها عن وقائع و تعطي إجابات مختصرة جدا تكاد تكون منعدمة أمام الكم الهائل من التساؤلات. وكما رسمت الشخصيات الوهمية، وتصوير ما تقوم به من أعمال، والتحكم في لغة الحوار، وهي في مجملها شغلت مساحة واسعة في الفضاء السردي.
وقد استخدمت كل الموضوعات الحياتية والحبكات الممكنة في البناء الروائي والأنواع الرئيسية من الصراعات، وخصائص الشخصيات. حيث تعد معاناتها واضحة جلية و بأسلوب سلس و بسيط في تعبيرها عن الوضع السياسي و الراهن المعاش للكل الفلسطيني حيث تقول على لسان الكلب الذي يحمد الله على أنه خلق كلبا: و من منطلق آخر أن تكون كلبا هنا هو أكثر رفاهية من أن تكون انسانا فلسطينيا) في إشارة واضحة من الكاتبة الى انعدام الحياة الكريمة للفرد في ظل سلوكيات الاحتلال خاصة في تحركه عبر الحواجز حيث تتم تصفية الناس و منعهم و التنكيل بهم. تدور أحداث الرواية في القدس حيث يعيش شعبان مختلفان متصلان منفصلان من حيث حياة البؤس و الحياة الرغيدة و الراحة في شارعين متوازيين.
فصول كثيرة من الواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و الأخلاقي باتت واضحة جلية في ثنايا الرواية أسقطتها الكاتبة في تورية غير واضحة و جلية للقارئ البسيط, تومئ فيها الى حال واقعنا السياسي المتردي مع الاحتلال كما تشير الى الفوارق الاجتماعية بين الاحياء في القدس و التي اعتبرتها أحيانا منتزهات تليق برحلة فاخرة و بين المدن الفلسطينية من القدس مرورا برام الله و وصولا الى أريحا ينعدم العنصر البشري و يطغى بروز عالم الكلاب ومحيطها من حيوانات أخرى كالقطط نشكر الكاتبة على هذه الالتفاتة التي عكست الكثير من الأفكار الخيالية المسقطة على الواقع المعاش و نقف مطولا أمام أزمة الطهارة و الوفاء التي تمثل الكلاب في جملتها (ليتك حيوان اكتملت حيوانيّته على الأقلّ، ولكن أين منك طهارة الحيوان)حيث تسقط قيم الانسان و أخلاقه و مبادئه و خياناته أمام عظمة الوفاء لدى الكلاب أقول هنا ...ليتنا كنا نتمتع بأخلاق الكلاب في عالم من الديستوبيا حيث يتجرد الكل الإنساني من القيم و التسامح و طهارة الفعل و القول في عالم من الفوضى و الكراهية و القتل و استباحة الآخر.
و بترتيب شخصيات الكتاب ، نتشه, زارا,سكر,شبنهاور,الكلب الهارب الفرعوني الي غير ذلك من الشخصيات التي نسجت دورة حياتية جعلت من الخيال مادة ملازمة لواقع على الأرض، التي مارستها الكاتبة في فضاء كينونتها ووجودها وأحلامها ,بلغتها التي بواسطتها تشكل العالم الصانع للوجود على الورق. و بالنظر لجملة الأفكار العامة المتخيلة في الكتاب قدمت لنا الكاتبة منتوجا متعدد الصياغات جدلي الأسباب بغية انجاز التصوير النهائي لفكرتها المبنية أساسا و بصورة واضحة مباشرة و غير مباشرة على على أفكار فلسفية من كتاب هكذا تكلم زرادشيت للفيلسوف الألماني فريديرك نتشه وهي شخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية. حيث يظهر واضحا و جليا ارتكازها على جزء من الكتاب و هو فلسفة الأخلاق التي هي الأكثر سيادةً في كتاب نيتشه. حيث يرى إن الإرادة هي من تحدد اتجاهاتنا واتجاه الحياة نفسها -وهنا يظهر تأثره بشوبنهاور وكتابه : العالم كإرادة وفكرة، وهي من تقرر إذا ما كنا نفعل فضيلةً أم نفعل سواها. حسب نيتشه كل ما كان -في الماضي- هو ما أرادته الإرادة أن يكون فعلاً، لذا لا حاجة بنا إلى ندب الماضي ولعنه، وهي نظرية قريبة من الجبرية.
و قد روست كل صفحة من كتابها بجملة قصيرة أو طويلة من نفس الكتاب و كأنها أرادت أن تقدم فلسفة سلوكية لشخصيات كتابها و من الأمثلة على ذلك: ان كُلاَّ من الكائنات أوجد من نفسه شيئا يفوقه و أنتم تريدون أن تكونوا جزْرا يصد الموجة الكبرى في مدها ص 11 -لقد اتجهتم على طريق مبدؤها الدودة و منتهاها الانسان ص 13 -إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه الانطفاء ص 15 ما الانسان الا حبل منصوب بين الحيوان و الانسان المتفوق فهو الحبل المشدود فوق الهاوية..... -انكم تتقاضون ثمن فضيلتكم و تطالبون بالجزاء ص25 الى غير ذلك من النصوص التي أرفقتها أعلى كل صفحة من كتابها قد رأتها مناسبة و متجانسة مع طرحها. ذلك لأن المبدع يتمتع بقدرة فائقة علي تجميع كل المفردات، وهو بالتالي متمكن من صياغة وضعية المفردات بالطريقة، وبالإيحاء، وبالتنبؤ، ووضعها في المكان الصحيح، والتسلسل الصائب، لكي يضمن الوصول إلى مشارف أوسع.. لرؤيته.
و لم تبتعد كثيرا الكاتبة عن نفس الفلسفة حيث وظفت اسم الفيلسوف نيتشه كعتبة و عنوان لكتابها و كشخصية محورية في السرد. كما وظفت في عملها اسم شوبنهاور الذي يعد مرجعية قوية للفيلسوف نيتشه, ربما كي تبتعد عن التلقائية المعهودة و إضفاء نوع من التميز الانجازي للكتاب . و الواضح أنها كانت مدركة لقيمة الإنجاز من خلال اسقاط ماهية فكرة رسالتها الملخصة في ألم الفلسطيني و تشتته و ضياعه داخل متاهة البحث عن الذات الذي يعتبر بمثابة العمود الفقري في هذا الانجاز و باستعمال ضمير المتكلم الذي تناول أزمة اقتصادية و أخلاقية و سياسية جعل هذه الرواية أشبه بالسيرة الذاتية مع أنها متخيلة وملحمية، تروى بصوت غير شخصي وأفعال ليست منطقية ولا حقيقية، كأن تروي شيئا ما كان موجودا قبل سرده. و قد سبق الكاتبة العديد ممن كتبوا بضمير المتكلم لحيوانات أو نباتات أو حتى أشياء, و هنا يحضرني الكلب ليدر المتحدث عن سيرته الذاتية فأجد تقاطعا و تشابها صارخا ما عدا في أسلوب الكتابة بين نيتشه كلب القدس و الكلب ليدر في كتاب مذكرات كلب عراقي للكاتب عبد الهادي سعدون و الصادرة عن ثقافة للنشر و التوزيع سنة 2012.
هي تقارب بأسلوبها الروايات (الصعلوكية) من خلال تتبع حياة الإنسان منذ لحظة ولادته حتى نهاية حياته و هنا نجد تقاطع استخدام الحيوان في الرواية حيث يسرد البطل ـــ الكلب ــ في مذكراته، الوقائع الغريبة والأحداث العجيبة،و الأزمات السياسية و الاخلاقية وظروف تشرده وحبسه فهذه المذكرات التي عاشها بكل ظروفها و متناقضاتها في العراق هي نفسها سلسلة حياة نيتشه في القدس و تنقله من حالة إلى أخرى. نقف هنا كي نتساءل: من منهما كان صاحب الحظ الأوفر من الألم و الشتات و الضياع و مناكفة الاحتلال و الفوارق الحياتية و المآسي ,كلب العراق أم كلب فلسطين؟؟؟ أخيرا, هذه ليست المرة الأولى، التي يهرب فيها روائي عربي إلى عالم الحيوان، لكي يبث له حيرته الوجودية وقلقه المستمر في دنيا البشر، فلقد فعلها من قبل الروائي المصري ناصر عراق، في روايته ”تاج الهدهد“ والروائي شريف الغريني، في روايته ”ذئاب وأسود وقمر واحد“، و الذي عمل على استخلاص الحكمة من عالم الحيوان. نشكر الكاتبة على هذه التلميحة الأدبية للخروج من النمط السائد، داخل النمط الروائي الذي يبحث عن شخصية فريدة وغير تقليدية من أجل الوصول إلى الهدف المعين و هو مرآة تعكس واقعا بعينه و حياة تشظي بين الاستقرار و الشتات.