قراءة أدبيّة في المجموعة القصصيّة:
الطلبية " c345"
القاصّة: شيخة حليوى
إنّها تنحت بإزميلها صخر الوجود، بكدّ و مثابرة حتّى تصنع تمثالاً بمواصفات حسيّة عالية ثمّ تهبهُ مرآة مخدوشة أخرى صافية، ليشاهد ذاته و يمارس الاسترجاع الذهني للأحداث التي مرّت به قبل و بعد أن تُخلق حواسه، في الأغلب يعاني خرسًا أو صمتًا لكأنه مشوب باكتئاب يجتاح رغبته بالحديث، تأتي إلى جانب إبداعها و تأخذ صورة لهما معا، تترك نذرًا يسيرا منها معه و تعود لمراقبة عملها أو صياغته من جديد، هي التي تحافظ على انفعالها عندما تشبك عناصر قصتها و تحفظ وجهة نظر الكثير من التماثيل الناطقة بمجتمعنا و تقدّمها بحياديّة لدرجة قد تقطع صلة قرابتها بالقصّة لتحوّلها إلى قاص بضمير مذكّر و نادرا ما أطلقت الأنثى لتحكي الحكاية.
شيخة حليوى القاصّة التي تعطي أبطالها استقلالية نادرًا ما يحظى بها الأبطال أمام أديب أنانيّ أو مصاب بالهوس اتجاه شخصياته، تحرّكها المخيّلة و الفكرة لقصّ أشياء متداخلة و مشتتة كبتلات وردة متناثرة من الصعوبة إعادة ترتيبها بمكان، لكنّها تروي حكاية البتلات كلّ واحدة منفردة، و في النهاية تلفت نظرك لخلاصة ذكيّة بانتهاء الوردة، ليتبعها تساؤلك هل كانت من صنف الجاردينيا أم التوليب أم النرجس البرّي أما أنّ القارئ تذوّق الرائحة و لم يدرك اسم الزهرة!
الطلبية مجموعة قصصية قصيرة للكاتبة الفلسطينية شيخة حليوى، c345
حيث الجزء يعبّر عن الكل في العنوان، يثير انتباهك لماذا هذا الوسم هو ما أرادت الكاتبة أن يكون الجوهرة التي تتوسّط التاج؟ لنرى أنّ:
طلبيّة: اسم
مصدر صناعي من طلب: شيء مطلوب توريده، سلّم طلبية إلى المتعهّد.
و الطلبية حملت رقما محددا و رمزا هو ثالث أحرف الأبجدية الإنجليزية، و قد يكون رمزا لقسم ما أو مصنع أو شركة..
إذا نحن في ظلّ شخصية أدبية عملية رسالتها واضحة، و اعتمادها الحقيقي على العرض و الطلب أو المرسل و المستقبل، أما المضمون أو المكنون فهو مُشفّر إلى حين معرفته و الدراية به، الطلبية شيء موجز قصير الامتداد مُحدد بكمية و رقم تسلسلي و رمز، لا أظنّ أنّ هناك تأويلا للأرقام سوى في الديانات و ميثولوجيا الحضارات القديمة، أما أرقامنا الحسابية البشرية فتأويلها محدود لكنه مع عنوان الكاتبة الذي اختارته مفتوح على فضاءات كثيرة.
قصص شيخة تُشعرك أنّك داخل "استوديو" للتصوير، حيث تؤثّث القاصّة المكان بنفسها و تأتي بأبطالها و تسلّط الضوء على دواخلهم في عتمة ما، هي الأنا بغيابها و حضورها و القبول و الرفض بالمقاومة و الهزيمة بالهروب و محاولات العودة، كما أنّها تسلّط الضوء بعدها على الآخر الفاسد و العدائي و الظالم و المظلوم الجاهل و المثقف، ثنائيات لم تمنحها الكاتبة اسمًا و لم تُطلق على الأماكن عناوينها، بل اكتفت بالمدلول، هل أسقطت القاصة متعمّدة قيمة الأسماء و العناوين؟ نعم فعلت بثقة عالية لأنّها اختزلتها في مكنون الإنسان و الأرض كرافد للوجود البشري لا سببًا للصراع، حيث قيمة الوجود غالية و العدالة مطلب سام و الحرب خوف و المجتمع بمعتقداته الواجمة سجن و حيث الآخر قد يكون أنت فيك.. قد تكون أنت نقيضك و صراعك كيف احتملت شيخة جلسات التصوير الطويلة هذه؟ و في النهاية تدخل إلى مسرح المشهد متخفيّة بإطلالة آسرة و مختلفة عمّا كان يسرد في البداية.. و قد كان هذا جليًّا في النهايات المفاجأة لأغلب قصصها.
أخيرا شيخة ولجت باب المقدّس و التابو و الآخر و فنّدت ادّعاءات الكون و حاولت تفسير البعد الميتافيزيقي لبعض التصرّفات البشريّة و الكائنات الأخرى، صرخت بكت صارعت وهُزمت و استمرّت لكن كانت إنسانيّة في المطلق، حيث قالت أنّ الكلمة في النهاية للإنسان دون اسمه أو مكانه باحثة عن الحريّة و العدالة في زخم هذه العتمة و القهر الكثير الموجود في البلاد، شيخة اختارت فئة من صفوة المثقفين كي يقرأوا لها، فقصصها في جموح رمزيتها و تعاليها على العادي لن تمنحها قُرّاء كُثر لكن ستبقى في فكر و وجدان المثقف العربي و الفلسطيني بشكل خاص.بحداثتها و تجديدها و انفصالها عن كلاسيكية السرد القصصي، لتخطّ سطرها الخاص و الأثير.