المفكر كمال عبد اللطيف
تبلورت في الأسابيع القليلة الماضية في المغرب مبادرة تدعو إلى أن يكون 26 مارس/ آذار يوماً لاحتجاج المثقفين المغاربة على الانسداد السياسي الحاصل في المجتمع. تجلَّت المبادرة في فضاءات التواصل الاجتماعي، في مُلصقٍ مُتَجَدِّد يشير إلى بعض دلالاتها، يجمع عَيِّنة من صور المثقفين المغاربة، وكلمة مُوجزة ترسم بالحروف بعض أهداف اليوم الاحتجاجي. وما يُلْفِت النظر في المبادرة توجُّهها السياسي الهام، الذي يروم التذكير بدور الثقافة والمثقفين، في إسناد مشروع التغيير المحاصر في مجتمعنا. تأسست المبادرة انطلاقاً من موقف سياسي مِمَّا آلت إليه الأوضاع العامة في المجتمع المغربي، ووجدت تجاوبا كثيرا وسط مجموعة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام. وقد تجاوز عدد المدن المغربية التي وافقت على القيام بالوقفة الاحتجاجية الأربعين، الأمر الذي منح المشروع كثيراً من مواصفات الفعل الاحتجاجي التاريخي. وضع الجميع نصب أعينهم رصيد المجتمع المغربي في الاحتجاج المدني، من أجل مزيد من الدفاع عن قيم المجتمع المغربي التحرُّرية، وتَطَلُّع تنظيماته المدنية للعدالة والمساواة.
ولأن المبادرة نشأت كأفق للفعل السياسي الذي يتوخّى مقاومة الآليات الصانعة لكثير من أوجُه الانسداد والتراجع، المهيمنة على مجالات الثقافة والسياسة في مجتمعنا، فقد قُوبلت من فئات واسعة من المثقفين بكثيرٍ من الحماس والأمل.يقدّم مُلصق المبادرة المتجدِّد عَيِّنة من صور المثقفين المغاربة، خلال ما يقرب من مائة سنة من مثقفي الحركة الوطنية في أربعينيات القرن الماضي، إلى الأجيال الجديدة من المثقفين الذين يملأون اليوم فضاءات الثقافة والإبداع في المغرب. ويتضمّن إشاراتٍ إلى مهام منتظرة منهم يوم الاحتجاج. ومنذ الإعلان عن المبادرة بوصفها فعلا سياسيا مدنيا، لم يتوقف أصحابها عن رسم ملامحها العامة في الملصق والكلمات التي تذكّر بأهدافها العامة، حيث تواصل إصدار الملصق المُزَيّن بوجوه نساء ورجال عَيِّنات من النخب المثقفة من الجامعيين والأدباء ومختلف المبدعين المرتبطين بفضاءات الإنتاج الرمزي في الأدب والفن والسياسة، ومختلف فنون الإبداع في المسرح والسينما والتشكيل. ونتصوَّر أن الرابط بين الصور التي تُزَيِّن ملصقاتها وإنتاج أصحابها يتجلَّى في اشتراكهم جميعاً في الدفاع عن مغربٍ جديد.
تابعت بعناية الفكرة والموقف، وأدركت أن الحماس السياسي المؤسّس لروحها العامة يستوعب تصوُّرات معينة عن الثقافة وأدوار المثقفين في زمنٍ جديد، كما يستوعب قليلاً أو كثيراً من اليأس من واقع المشهدين، السياسي والحزبي في المجتمع المغربي، وذلك بحكم ما آلت إليه أوضاع اليسار المغربي المشتت والمُتَرَهِّل في المجتمع، وقد أصبح اليوم لا يملك القدرة على مواجهة أعطابه، ولا القدرة، في الوقت نفسه، على فكّ رموز التحدّيات أمامه، في مشهد سياسي تكراري، وبدون أفق مُحدَّد في التغيير والتقدّم. ونتصوَّر أنه في ظروف مماثلة، لا يمكن اعتبار أن احتجاجات المثقفين هي الحل، إنها حركة رمزية ذات أهمية كبرى في أزمنة الكساد السياسي، إلا أنها لن تصنع الفعل القادر على عودة التاريخ إلى السياسة، وعودة الفعل المُناهض لمجتمع سياسي بدأ يستأنس بقواعد جديدة في العمل السياسي، قواعد لا علاقة لها بالآفاق والتطلعات التي تغنّت بها الحركة التقدمية المغربية بعد الاستقلال.
شَكَّلت طلائع المثقفين المغاربة في ستينيات القرن الماضي الوجه المُضيء لجبهة التحديث السياسي والتاريخي التي ساهمت في رسم معالمها وخيوطها الكبرى الحركة الوطنية المغربية برجالها ونسائها، من أجل بناء مجتمع جديد. وقد كان الجميع إذ ذاك على بَيِّنة من أن الإعداد للمجتمع الجديد لا يكون إلا بتهيئة الشروط التاريخية المناسبة. وهكذا برزت تباشير الإصلاح في مختلف الميادين ذات الصلة بنهضة المجتمع وتقدّمه، في التربية والتعليم، في السياسة والاقتصاد، بل وفي مختلف جوانب الفكر والإبداع. ولم يكن المشروع سهلاً واعترضته منذ بداياته زوابع وعواصف، وترتبت عن الصراع من أجل بلوغه ارتداداتٌ وتراجعات، وظلّ المثقف يحمل شعار التغيير، حلم التغيير وأفق التغيير، من أجل بناء ما يُسعف بتجاوز القيود التي تمنع الحركة والتقدّم. وإذا كنا نتصوَّر أنّ أصحاب المبادرة يتطلعون إلى تحقيق وقفة احتجاج يكون بإمكانها تخطّي عوادي الزمن، وتُخلّص المجتمع المغربي من مختلف مِحَن السياسات القائمة وآثارها، من أجل المساهمة في الانفراجات والتحوّلات التي يمكن أن تؤدي إليها الاحتجاجات القادمة، فتشكِّل منطلقاً لبدايات مغربٍ جديد. إلا أننا نرى أن الأفق الذي يتطلع إليه الذين تصوّروا الفكرة، يتطلب خيارات سياسية أخرى، خيار مؤسّسات سياسية لم تسمح شروط مشهدنا السياسي بميلادها بعد.
لم تسمح السلطات المحلية بالقيام بالوقفة الاحتجاجية للمثقفين يوم السبت الماضي، رغم الطابع المدني الذي أعلن عنه الذين دعوا إليها، إلا أن المتابع لفكرة المبادرة، ولأشكال المنع الرافضة لها، يُدرك أن قوة المبادرات السياسية في التاريخ لا تُقاس فقط بالروح التي تحملها، إنها تُقاس، أولاً وقبل كل شيء، بالمؤسسات التي تمنحها القوة القادرة على تحويلها إلى أداة للتغيير، ومواجهة مختلف التحدّيات القائمة في المجتمع. ما يُميِّز مبادرة القوى الداعية إلى تفعيل دور المثقفين في تعزيز مشروع التغيير في المغرب أنها تدعو إلى ضرورة العناية بمعضلات الحاضر المغربي في تحولاته الجارية، في أسئلته وكبواته، إنها تدعو المغاربة إلى المساهمة في بناء الطموحات الهادفة إلى تكسير رتابة المشهد السياسي، تكسير هيمنة البلاهة التي تُعَمِّمُها اليوم الوسائط الاجتماعية. وما يمكن أن نفكّر فيه في ضوء المنع الذي جُوبهت به هو إعادة التفكير مُجَدَّداً في أدوار المثقفين، من أجل تشذيب صور الحنين التي يحملها الذين يتطلعون إلى مشاركة المثقفين الطلائعيين في معارك معينة، كما كان عليه الأمر في أزمنةٍ خلت، معتقدين بإمكانية عودة المثقف الدّاعية العارف وحده بحقيقة ما يجري، بدل أن يفكّروا في التحولات التي تنبئ بالصورة الجديدة للمثقف القادر اليوم، على حراسة مقتضيات اليقظة الذهنية والتسلّح بالفكر النقدي، لمواجهة اليقينيات المهيمنة على ثقافتنا، والعمل على محاصرة مختلف أشكال الفكر الشمولي وأنماط البلاهات السائدة في مجتمعنا، لتظلّ الثقافة عنواناً لخياراتٍ لا تتردّد في مواجهة أعطاب التاريخ والسياسة وصناعة المستقبل.
بات مؤكّدا اليوم أن نهاية شرعية الرئيس التونسي، قيّس سعيّد، الانتخابية، لم تكن يوم 20 مارس/ آذار 2022 تاريخ الإعلان عن نتائج استشارته الوطنية، وإنما كانت يوم 22 سبتمبر/ أيلول 2021 لمّا أعلن عن المرسوم الرئاسي عدد 117، وتعليق الاشتغال بالدستور التونسي لسنة 2014، الذي وضعته جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا مباشرا، كان من بين من اقترحها قيس سعيّد نفسه (مقال قيس سعيّد "من أجل دستور جديد لتونس"، صحيفة الصباح، 6 فبراير/ شباط2011)، ليحلّ محله ذلك المرسوم في شكل نظام مؤقّت للسلطات العمومية. ومرجع فقدان الشرعية الانتخابية المعبّرة عن الإرادة الشعبية هو الحنْث العظيم عن القسم الغليظ الذي أدّاه سعيّد أمام مجلس نواب الشعب، بحضور ممثلي الطيف السياسي كافة، يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وفق ما ورد في الفصل عدد 76 من الدستور التونسي، بالقول الجهر المعلن أمام وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية وكل أفراد الشعب التونسي متابعين وشهودا "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها وأن أحترم دستورها وتشريعاتها وأن أرعى مصالحها وأن ألتزم بالولاء لها".
وهذا الحنْث العظيم الذي أصرّ عليه سعيّد، وكأنه المثال لما جاء في القرآن العظيم ("وكانوا يُصرّون على الحنث العظيم"، سورة الواقعة الآية 46) لا يتعلّق فقط بالقسم على احترام الدستور والتشريعات المعمول بها التي تُنتهك يوما بعد آخر لفائدة نصوصٍ شخصية، لم يشاور فيها الرئيس أحدا، ولا إجماع حولها ولا تداول في محتوياتها ولا استفتاء للناس في شأنها، وإنما يُضاف إليه عدم القدرة على الحفاظ على استقلال البلاد من التدخلات الأجنبية والإملاءات الخارجية ومراعاة مصالحها بحماية سكانها من المخاطر التي تتهدّدها من جرّاء الأزمة الاقتصادية والمالية والحروب والصراعات الدولية (غلاء الأسعار والفقر والمرض والجهل والجريمة)، والتدخل الأجنبي بيّن في ما يمارسه قناصل الدول الكبرى وبعثاتهم الدبلوماسية في تونس، من خوضٍ معلن في مختلف قضايا البلاد وقراراتها السيادية والتأثير فيها.ولم تكن نتائج الاستشارة الوطنية التي جعل منها الرئيس قيس سعيّد، من حيث هو يدري أو لا يدري، استفتاءً شعبيا على ولايته في الحكم ومشروعيته الشعبية التي يدّعيها، سوى تجسيد عملي لنهاية شرعيته الانتخابية التي تلاشت قيميا وأخلاقيا ودينيا يوم 22 سبتمبر/ أيلول 2021 عندما قرّر أن يدوس على الدستور بنعليه، فقد استبدل تلك الشرعية الانتخابية الكثيفة التي مُنحت له في انتخابات 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 من نحو مليونين وثمانمائة ألف ناخب تونسي بنسبة 72.71% من الأصوات بمشروعية شعبية متهرئة، لا وزن شعبيا لها، ولم تحظ بتأييد النخب الفكرية والسياسية والمدنية والإعلامية وقادة الرأي العام، المختلفة التوجهات والآراء. تجلّى فقدان الشرعية الانتخابية في ما انتهت إليه الاستشارة الوطنية التي دامت شهرين ونصف الشهر، ولكن المشاركة فيها تخطّت 500 ألف مشارك بقليل، وهو رقمٌ يقل بمائة ألف عن حصيلة المصوّتين للرئيس سعيّد في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 ولا يمثّل إلا 6% من أصوات عموم الناخبين و7% ممن هم في سن السادسة عشرة فما فوق المعنيين بالاستشارة الوطنية.
جاءت نتائج الاستشارة هزيلةً، على الرغم من توظيف كل إمكانات الدولة التونسية اللوجستية والإدارية والبشرية من أجل إنجاحها، وخصّها رئيس الجمهورية باجتماعات عديدة مع الوزراء ذوي الصلة، وخصوصا وزراء تكنولوجيات الاتصال والتشغيل والتكوين المهني والشؤون الاجتماعية والشباب والرياضة، وتداول في شأنها عديد مجالس الوزراء بإشراف الرئيس نفسه، وخصّص لها التلفزيون الوطني والإذاعة الوطنية ومضات إشهارية دورية على مدار اليوم، ونزل الولاة والمعتمدون إلى الشوارع يأمرون الناس بالمشاركة فيها، وانتصبت لأجلها الخيمات في المدن والقرى والأرياف، للتعريف بها والمساعدة على الولوج إلى موقعها على الشبكة الافتراضية، وفُتحت لها جميع دور الشباب في كامل تراب تونس، وسُخّرت أجهزتها الاتصالية والإعلامية، وأرسلت مؤسسة اتصالات تونس الحكومية ملايين الإرساليات القصيرة تحرّض المواطنين على المشاركة، وجُنّد لأجلها جيشٌ إلكتروني يمارس الدعاية بواسطة صفحات "السوشيال ميديا"، وأقرّ الرئيس مجانية الإنترنت لكل من يرغب في المشاركة فيها، ففي نجاح تلك الاستشارة نجاح الرئيس وتأمين مستقبله السياسي، وبفشلها سيتهاوى مشروعه السياسي، وسيكتشف أن الشعب الذي يريد لم يعد يريد الرئيس، ولم يعد يثق فيه وفي رؤيته للحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع. وفي حين صوّتت للرئيس سعيّد يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 شرائح شعبية كثيرة، مختلفة الانتماءات السياسية والفكرية والفئات العمرية والانحدارات المهنية والجغرافية، وكانت العملية الانتخابية نبيلةً غير مشكوك في مصداقيتها بإجماع من راقبها وتابعها تعكس إجماعا مجتمعيا حوله، بعد أن أشرفت عليها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، كان في خدمة الاستشارة الوطنية بقايا الشُعب الدستورية (التجمّع الديمقراطي الدستوري المنحلّ بأمر قضائي) والعُمد الترابية والحملات التفسيرية الموالية لشخص الرئيس الحاكم بأمره الذي تختزل ذاته وكيانه "الأمّة" والوطن، والمعتقدة في عبقريته التي ترتقي به إلى مستوى دون الآلهة بقليل، كما هو الأمر في الثقافات القديمة الإغريقية والمصرية والسومرية، وفي الأنظمة الرئاسوية، معيدة إنتاج ممارساتٍ سياسية انتهى زمانها وولّى عهدها وتخلّص منها المجتمع السياسي التونسي بسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي يوم 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني 2011) وقبرها إلى غير رجعة.
لا توجد أمام الرئيس سعيّد حلول كثيرة بعد أن انهارت شرعيته الانتخابية، وبان فقدانه مشروعية شعبية حقيقية، سوى الرجوع إلى الشعب في انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها تشرف عليها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات دون غيرها، وينظمها قانون انتخابي يتفق عليه فرقاء السياسة وكبار فاعليها يكون موضوع حوار وطني وإجماع سياسي – مدني، فلم يعد البرلمان وحده من يفتقد الشرعية الشعبية، ما أدّى إلى تجميده وتعليق أعماله، حسب مقتضيات المرسوم عدد 117 الرئاسي، فقد أثبتت الاستشارة الوطنية التي قرّر الرئيس سعيّد إجراءها وأشرف عليها بنفسه، أنه بات فاقدا الشرعية أيضا، وعليه أن يعرض نفسه على الشعب من جديد. أما الاكتفاء بتنظيم انتخابات تشريعية وفق قانون انتخابي يضعه الرئيس بمفرده في شكل مرسوم، ولا تشارك في صياغته القوى والأحزاب الوطنية، سيؤدّي حتما إلى تعاظم الأزمة السياسية التونسية بسبب مقاطعة تلك القوى الانتخابات، وسيفاقم من الأزمة القيمية الأخلاقية التي علقت برئيس الجمهورية منذ حلف اليمين الغليظة باحترام الدستور وحنثه ذلك، وهو الذي سوّق نفسه لدى الرأي العام ورسم صورة في المخيال الجماعي بأنه الرجل الورع الذي يؤدّي صلاته كتابا موقوتا في كلّ مكان حلّ به، رصدته كاميرا التصوير أم لم ترصده، ونسي أن تلك الصلاة تنهى عن اليمين الغموس، فهذا النوع من القسم يحتلّ مكانا محترما في سلّم المنكرات.