قراءة نقدية في رواية بنت شاتيلا
بقلم: أحمد الحرباوي
رواية بنت من شاتيلا للكاتب أكرم مسلم، والصادرة عن الأهلية للنشر والتوزيع 2019، هي سرد الذاكرة التي حبست أنفاسها عند أول فرصة للبوح، كي لا تسقط ملامح البداية على أرق النهاية، رواية تكتب فصول من موت يتوزع مثل أكياس المؤن على أحلام المنكسرين والقانتين في محراب الذكرى يصلون لأجل أن تبقى ملامح المفقودين والوطن، والانسان حية داخل أروقة الذاكرة، عنوان الرواية يشي إلى أن المجزرة أصبحت عنوانًا وهوية، فكيف يحمل أبناء الموت هويته وأسمائهم ويسيرون بها في تقادم الزمن؟
يقول بول ريكور في كتاب الزمن والسرد، أن الزمن لا يكون بشريًا إلا عندما يضبط بطريقة سردية، والسرد هنا يأتي من الذاكرة، والذاكرة هي الحلقة المفقودة دائمًا بين السرد والزمن، لأن هناك تصادم وتزاحم دائمٌ بين النزوع للحقيقة في الممارسة التاريخية وبين الوفاء للذاكرة، ورواية بنت من شاتيلا كانت تنزع إلى الحقيقة من خلال الوفاء لذاكرة المكان والزمان ومن خلال شخصيات حية تتنفس الألم داخل النص، لتحيى لمرة واحدة كي تقول ما غاب عن من تولوا زمام الكلام عن أصحاب الفجيعة الأصليين، لأنهم أبادوا الحقيقة أمام مكاسبهم، فبوح الشخصيات من خلال تفاعلها بالحدث جاء بلا أي تحيز أيدلوجي أو ديني أو حتى مرتبط بالهويات الوطنية، حيث فكك هذا النص خبر المجزرة، ليسقط عنها زيف الرؤية السياسية للمجزرة، راوي السرد في هذا النص عبارة عن ذات فاعلة تنتنقل عبر الشخصيات المختلفة في تقادم التاريخ لتقول فصول الرواية المنسية، التي قوامها الانسان ولا شي سواه، حيث أسقط النص كل الروايات السياسية والدينية والطائفية للحدث، ليكون الانسان بكل ما يحمله من مشاعر وأحاسيس وألم وفقد هو من يروي فجيعته بنفسه دون أي وساطة.
تدور أحداث الرواية في طبوغرافيا النص في لبنان وألمانيا وغزة في نهاية الرواية، ، ضمن فصول متعددة ارتبطت بشخصيات مختلفة، تمثل عدة حلقات تربط الحكاية ببعضها البعض، وبأفق زماني ممتد من عام 1982 حتى 2007، وزمن الرواية بالأساس ومن خلال السرد ظل يحمل ثلاث أبعاد أساسية هي حاضر الماضي وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل، حيث تصبح المجزرة عبارة عن هوية تسقط كينونتها على متلقيها وعلى حاملها، ليصبح عبارة عن كينونة مستقلة ضمن تراصف القضية الفلسطينية عبر مراحلها المختلفة والمتتابعة، والسؤال المهم من خلال بنية السرد والتي يتحتم علينا تفكيكه، هو كيف تعمل هذه الفضاءات الثلاث على رسم الراهن وتحولاته؟ وهذا ما سنكشف عنه لاحقًا.
هناك ثلاث محاور أساسية تقوم عليها الرواية، وهي علاقة المجزرة بالأجيال المتلاحقة، وتحولات الراهن الاجتماعي، ورهان الثورة الفلسطينية، واسقاط المقدس عن الضحية، ليصبح الضحية متهمًا ويحمل وزر المجزرة ضمن أفق الصراع الذي فتحه المناضل الفلسطيني من دائرة الاحتلال إلى دائرة التصارع الاقليمي في الدول العربية التي تواجد بها، لتبرز لدينا صورة الانسان داخل بوتقة ذلك الصراع الذي ظل يروى على أنه قضية وطنية لعقود متلاحقة.
تتحدث الرواية عن الجيل الثاني للمجزرة، والمهم هنا أن النص يضعنا أمام عدة مستويات للبوح مستوى أول بين جيلين مختلفين، يتصارع بين أفقين هما الذكرى القادمة من الأمس وفراغ الحاضر، وهذا الصراع تأسس منذ البداية بين شخصيتين تقعان على النقيض، وما أعنيه سأبوح عنه على درجات متتابعة، في مشهد البداية هناك فتاة ذات ست أعوام خرجت من المجزرة كناجية وحيدة من أسرة واحدة، تدافع الصحفيين والناجين عليها من أجل التعامل معها كدعاية، ولكن كان أكثر ما يضايق الفتاة ذبابة وقفت على جبينها (ذبابة جثث) عندما هم مصور أجنبي في التقاط صورة لها بين جثث أفراد عائلتها، رأت الذبابة في الصورة، ذبابة لم ترها خالتها التي كفلتها بعد مقتل عائلتها فقالت لها (الناس عندما يتعرضون لتجارب صعبة قد يرون أشياء غير موجودة، وأنا أقول أن الناس قد يكفون عن رؤية أشياء موجودة عندما يتعرضون لتجارب صعبة ص 9)، وتضيف الفتاة (قد خبرت ذلك جيدًا)، وهنا المفارقة، حيث أن احساس الخالة بالفجيعة كان أقوى لأنها الواعي بالوجع ولكن بشكله المجرد، الفتاة ذات الست أعوام كان أكثر ما يشغلها وقت المجزرة ذبابة تقف على جبينها، (هذه أول صورة ستأخذها مع عائلتها، وأكيد أنها الأخيرة) المفارقة تكمن في أن احساس خالتها ظل ثابتًا رغم تتابع الزمن، ولكنها هي عندما ستروي الحدث بعد أعوام طويلة روضها الفقد فيها، سيكون وعيها بالفجيعة ليس مجردًا، بل سيلازمها حتى آخر أيامها، لأنه أصبحت هي التي تعطيها كينونتها، وتصيغ احتمالاتها وخياراتها ورغباتها داخل الواقع، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، كيف تصير المجازر هوية تبنى على جثثها كينونة تهتز وهي تحاول العبور فوق جثث المكان والشخوص والذاكرة ليظل الزمان ثابتًا.
أما بوح السرد العام للنص فهو الأهم لأنه تأسس على تمثلات الجيل الثاني للمجزرة من خلال وجود شخصيتين مختلفتين في التعاطي مع الموضوع، الأولى حورية والثانية الشاب الأنيق، الأولى وعت المجزرة من خلال الفقد، والثاني وعى المجزرة من خلال الاعلام، الأولى أكل الفقدان ملامح وجهها حتى هربت بعيدًا من ذاكرتها نحو الحياة، أما الثاني فقد خبر المجزرة كدعاية لف بها محافل العالم ليتكلم عنها، وهنا مفارقة أخرى يضعنا النص بين تلابيبها، في الفصل التاسع عندما يفاجئ الشاب حورية من أجل أن تتكلم لجمهور ألماني عن قصتها، تهرب رافضة ذلك، لأنها حسب بوحها (حملت السلاح وقاتلت، ص127)، وترفض أن تكون ضحية سلبية، وهنا مفارقة، كيف تتحول المجازر الكبرى الى حكايات تلقى على المسارح ضمن صيروة الحكاية الانسانية الكبرى، وهنا ناتي إلى قصة عجوز ألمانية بين الحضور تتذكر الحرب وفقدان زوجها التي احتفظت بصورته مع غبار الركام، وتظهر داخل هذه الجدلية جدلية أخرى، حيث ينفتح النص هنا على الوجع الانساني العام، لنكون على خطوة من الانصاف أهملناها كثيرًا وهي أننا لسنا وحدنا الضحايا، هناك ضحايا كثر في العالم، وعلينا أن لا نظل نلعب هذا الدور الانهزامي، لأن هذا في تمثلات الوعي الفلسطيني أدى إلى نكبة أخرى تحولت من خلاله القضية إلى مجرد صورة إعلانية بدون أي هدف، وهنا أضحى المفهوم الوطني مرتبط بالاستسلام بشكل غير مباشر، كما في فصل عازفة الكمان هناك مستوى آخر من الصراع وهو متعلق برواية الضحية، ضحايا اليهود في الهولوكوست الذين حسب وصف النص كنا ضحية الضحية، والتي بددته حورية البطلة في حوارها مع الشاب عندما سألهاعن شعورها بتواجدها بشقة كانت لليهود، كيف تشعر وهي كضحية ضحية، حيث كانت اجابتها تؤسس لوعي جديد عند الشباب الفلسطيني، علينا عدم الخلط بين الضحايا والناجين، الناجون قد يتحولون إلى قتلة حيث يصبح هناك ضحايا للناجين، المجزرة هوية والناجون هم من يحددون هويتهم ص 141).
المستوى الآخر من الطرح داخل الرواية مهم جدًا لأنه متعلق بــــــــــــــــ:
تضعنا الرواية أمام حقيقة أنكرناها طويلًا وهي تتعلق بالمفهوم النضالي عند فصائل الثورة الفلسطينية، حيث تربط الرواية مفهوم النضال ليس بعلاقته مع الاحتلال الاسرائيلي، بل من خلال حركته مع الصراع الاقليمي، يشير النص في بنيته العميقة إلى أننا لم نكن ضحايا دائمًا، حيث يصفعنا النص لننظر إلى زاوية الجلاد فينا، هذا ورد في النص من خلال سرد الخالة وفي حكاية الجمل، والد حورية، قال الجمل (الفدائي)، (السلاح أداة عمياء، قد اصبت أنا بسلاحي ص69)، وهذا اعتراف منه، ولكن كيف يصاب المرء بسلاحه، قبل الإجابة عن هذا السؤال نستطلع من خلال حوار الجمل مع ابنته ملمحًا مهمًا، وهو محاولة التبرير المستمر للثورة من خلال موقعه في تجربة النضال، ومن خلال السياق يعرج الأب إلى ملمح الثورة البشع، من خلال طلبه منها عدم زواجها من شب أحبته، شاب هو أخوها منه، من خلال عملية اغتصاب غير مباشر لإمرأة جندي من جنوده اعجب بها في مراكز الهلال الأحمر، بعد أن قال لها علينا عدم (خلط أداء ثورتنا، بأدوار مرتزقة من بيننا، ص71) وسؤال النص ينفتح على ما لا يقوله النص، لماذا لا يحاسب المخطئ نفسه، ويحاول دائمًا تبرير أخطاء المرتزقة حسب قوله، دون أن يعي أنه كان جزءً منهم؟؟!
من خلال هذا الديالوج بين الأب والفتاة يتضح لدينا معالم وعي متعلق بالجيل الجديد (هي تفرق بين تجربة الثورة، وبين بؤس النموذج الذي قدمته، بتحولها إلى سلطة انتقالية، ص71)، وهذا الوعي الجديد يأتي من خلال تجارب الشباب لشعارات المشروع الوطني التي تؤسس لما نادت به لعقود، وعلى المستوى الآخر ومن خلال ما سمته شخصية الجمل داخل السرد بأن لكل ثورة مرتزقة، ما أثر المرتزقة في وعي الجيل الجديد الذي يرث مفاهيم خاطئة وظهر ذلك في مشهد الخالة وهي توزع الحناء على سكان المخيم بعد موت شارون، حيث سألت طفل عن من ارتكب المجزرة فيجيب المسيحية ص 146، وهذا صورة عن محاولتنا الدائمة لتبرير الخطأ ووضع الآخر محل مسؤولية فشلنا، وهذا ما سعت بنية النص على تقشيره بشكل مستمر، وهذا عكس ما ادعاه الجمل حين قال (ارتكبنا أخطاء وانجرفنا وراء ردود فعل لكننا لم نسوق بؤسنا على أنه ثقافة أو قيمة أخلاقية عليا، لم نكن طائفيين، ص70)، والذي يؤكد ذلك في مشهد زيارته لابنته في ألمانيا: (فتح حقيبة دبلوماسية رمادية اللون متوسطة الحجم ص66)، فهل الحقيبة الديبلوماسية من هبات خنادق الثورة والقتال؟؟
هذه الصورة لم تكن عبارة عن مشهد منفرد حسب سياق النص، بل أصبح ملمح من ملامح الثورة الفلسطينية قبل خروجها من لبنان، حتى زوج الخالة العائد بعد ثلاثين عام من السجون السورية، رفض الواقع، الرفض جاء من تغير كل ملامح ما تركه، هذا دليل على موت الثورة الحقيقية، (نظر إلى ساعته الانيقة كأنه أراد بعد أن فقد حصته بالمكان، أن يتعلق بخيط الزمن، كانت عقارب الساعة قد توقفت ، ص87)، (دخل وكأنه أعمى يسلم يده لأي شخص يوصله إلى أي مكان ص88)، وكي يعود مرتبطًا للثورة التي كان جزء منها، قام (بشراء بدلة وحقيبة ديبلوماسية وصار يسير بها يوميا في أزقة المخيم، 90) بعد أن أعادت له المنظمة راتبه.
في هذا المحور سنأتي إلى الملح الأخير من تحولات النظال والثورة، وهو يكمن قي حاضر المستقبل الذي تكلمت عنه في بداية الورقة، الجمل رفض أن يكونوا طائفيين، ولكن ما يقوله النص على أننا أصبحنا في الثورة والنضال طائفين من خلال مشاهد حرب غزة، يعترف الجمل بتقادم الزمن أن (الفلسطيني ليس ضحية قدر بل طرف في اللعبة معه ص151) والتحول الأكبر يكمن في تكرس خوف الماضي في قوله (ما معنى أن يصبح سلاح الفرع أكثر كفاءة من سلاح الأصل، في دلالة على الصراع الفلسطيني- الفلسطيني، هو ليس انقلاب لا بل اخطر من ذلك ثورة برأسين) وهذا ظهر في حوار المساعد مع أحد رواد المساجد الذي يمثل النضال الديني حيث قال عن استشهاد أبو جهاد بأنه شيء غير مهم لأانهم (كفارًا يقتلون كفارًا ص 148).
وهنا يختم الجمل المشهد في قصف مواقف العدو لا لأنها حرب متكافئة بل حروب من بوصلة الثورة المشوهة، حيث يقول له مساعده في حوارهم الأخير (أنت لا تقصف لتنتصر بل لتجعل من العدو ذريعة انتحار) فيجيبه الجمل: ( ليس انتحارًا ان تموت وأنت تشير للجانب الصحيح من المتراس ص 150) وكلنا الآن نعيش الجانب الخاطئ من الثورة.
من خلال هذا المحور سأحاول باقتضاب رصد ملامح التغيير الاجتماعي من خلال فسحة السرد في الزمان والمكان، حيث رصد النص ملامح اجتماعية عبر ثلاث فضاءات من خلال عدة شخصيات، الأولى قضية التفكك الاجتماعي من خلال عدة عوامل أنتجتها، الأول سنرصدها في ألمانيا وسنربطها بتحولات المجتمع الفلسطيني بعد أصداء المعارك والمجازر، فالرجل الدائري وحلم الساعدة السادسة صباحًا، وهروبه من جثة جاراته الميتة، العجوز الألمانية التي هاجرت ابنتها الوحيدة من أجل مساعدة اللاجئين في لبنان، وتركتها تموت بصمت، كلها ملامح تفكك اجتماعي له نتائج ملموسة على أرض الواقع، الحورية في ألمانيا التي انفكت عن كل ما يحيط بها لترمم ذاكرتها، الخالة التي سعت بكل ما أوتيت من حنكة من خلال الأجانب والمانحين العمل على تسهيل سفرها،حيث (أرادت أن تدفع الصدفة بكل ما أوتيت من قوة إلى مربع الممكن ص43)، هل هي مؤشر على تغييرات في بنية المجتمع الفلسطيني، هل الاحساس بأن الثورة لن تحقق مبتغاها، وأن الراهن لن يتغير باشارة النص نفسه هو من غير من ملامح الثوابت الوطنية والنضالية وأصبحت النزعة الفردية هي من تلعب الدور الرئيس في صياغة الخيارات، فالنص أشار ص 73 إلى الأخ الذي نجى من المجزرة حيث قام بإعادة تمثيل الماضي، وكأن الزمن لم يمشي في المخيم يقول النص: (صار الباب الخشبي حديديا بدل الجثث أطفال كثيرون يلهون، تنشر زوجته الغسيل ...... الخ) وهنا تكرار للحياة في زمن متوقف هو من أفضى للنزعة الفردية.
هناك نقد غير مباشر من خلال النص، ويتعلق بسيطة رأس المال الاجتماعي، القزعامة من خلال وظيفية وطنية واجتماعية ودينية، ظهر في ص 99 من خلال حلم ابن مقلة الشيرازي حيث تم طرح سؤال وجودي لما الخيانة تمت بين البطل وزجة المقاتل، لماذا ليست بين زوجة البطل والمقاتل، وهذه جدلية كبيرة أخرى يطرحها النص، بين من يكسب في زمن الثورات، ومن يخسر كل شيء الا قضيته، (المقاتل الشهيد كان فدائيًا حقيقيًا ص113) ما لا يقوله النص.
هناك اشارات تاريخية ل شامبليون وابن وحشية، الختام في المشهد الفتتاحي المستمر اغتصاب المرأة التي قتلت ابنها في المجازر تقتل الاغنيات ويغرق القتلة بالدم طرق المغفرة، صوت ليسكت أحد منا منبه الساعه حيث لا أحلام تقد صحونا الوقع هو من يقد راحتنا باليكن النوم طويلاً