تبدأ أحداث الرواية عند أولى أبطالها" ليئا اليهودية"، ولأن الكاتب منح شخوص روايته أهمية لا تقل عن الأخرى، فتكاد تعتقد بأن ليئا هي بطلة الرواية الوحيدة، ثم يقتلها فيخيب ظنك دون أن تخسر شغف القارئ في متابعة القصة، وفي الصفحة السابعة عشر يجعلك تعتقد بأن ميسون زوجة المختار هي البطلة الحقيقية، من خلال الأهميّة والعناية الكاملة بتفاصيل حياتها؛ من شجرة التوت باب بيتها، إلى أوانيها الفخارية والبريموس، وهنا تتداخل نسوة الرواية برشاقة تشبه الخدع البصرية، لكنها مقروءة.يتنقل الكاتب من بطل إلى آخر من خلال الحدث الإجتماعي والتاريخي السياسي، ودون أن يعرض جودة الرواية إلى أي خلل.برع الراوي في الوصف وتصوير مشاعر شخصياته، حيث تمكن من السيطرة على وقت المتلقي كما لو أنها حالة إدمان،في الصفحة الخامسة عشر يجعلك تعتقد بأن ليئا على وشك وأد مولودتها فتحاول الإسراع لتؤكد لنفسك بأنك قد كشفت أوراق الكاتب، وبت تعرف الجريمة التي على وشك الوقوع، لكنه يفاجئنا بعادة قديمة كانت تتبع في قرى فلسطين.
”وربما كانت خاصيّة التوثيق من أبرز ما جاء في الرواية، ولحفظ ذاكرة الشعوب من النسيان“
"بقطع حبل السُرّة لإبنِك" وهذه تعني وهب المولدة لإحدى النساء الحاضرات لحظة الولادة لتزوجها من ابنها لاحقا.وبتقنيّة سردية وثّق أحمد الحرباوي الأحداث السياسية والإجتماعية التي دارت ما بين العام ١٩١٤ إلى غاية العام ١٩٥٣، وربما كانت خاصيّة التوثيق من أبرز ما جاء في الرواية، ولحفظ ذاكرة الشعوب من النسيان ذكر أسماء صحف كانت تصدر في تلك السنوات، والتي غالبنا لا يعرف بأنها كانت موجودة.وما يدعونا لتصنيف الرواية بالنص الحكائي التوثيقي تلا الإهداء، حيث ذكر الراوي سبب كتابتها وهي البحث عن الأغنيات التراثية لمدينة الخليل، جاءت على شكل أهزوجات من خلال الرواية؛ لابد أن النسوة ألّفن تلك الأغنيات بما يتناسب من الحدث.اعتمد الكاتب على الوقائع الحقيقية دون اللّجوء إلى الخيال، وهذا ما كررته دوما بأن الرواية تحتاج إلى واقع حقيقي كي تولد، والخيال لا يستطيع خلق رواية سوى ما يصنف تحت مسمى"الرواية الخيالية" .كما ذكر المؤلف الظواهر الإجتماعية والأمنية للمعارضين والمؤيدين للحكم آنذاك. وروى الروائي كيفية إعدام المعارضين المهددين للسلطان، وأين كان يتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم ، وكان ذلك في بيروت،هذه كانت معلومة جديدة للقارئ.كما تطرّق الكاتب بلمسة خفيفة إلى الديانات ودور الرهبان والحاخامات في تَشَكّل اللجان الشعبية، دون محاولة تجميل تلك الشخصيات حتى لا يقع في سوء ظن القارئ، وهنا حضر ذكاء الكاتب بقوة شديدة.تعتبر الرواية التوثيقية عملًا شاقًا بحيث يتوجب على الراوي البحث والتمحيص، ومطابقة الروايات ثم توظيفها في النص بتقنيات سردية تنكشف عبرها تفاصيل الشخوص ومشاعرهم.كما تطرق الكاتب بخفّة إلى العنصرية الفئوية في المجتمعات الفلسطينية كما ورد في الروية في الصفحة (25) "بدي ألعن أبوها بنت الفلاحة عاملة حالها مدنية وستّها خواجاية بطرابلس،بدها تفضحني قدام الخواجات ".وبالرغم من الحوارات القليلة التي وردت في النص إلا أنها لا تنقص من قيمة الرواية الأدبية، وذلك لأنها جاءت تحمل بعض المفردات العاميّة الملحقة بهامش بين الصفحات لمزيد من شرحها لمن لم يسمع بها من قبل.