الوصايا المغدورة للشاعرة خربوشة 2/3
الوصية الأخيرة للقيامة
شعيب حليفي
ارتبك المؤرخون وكان عليهم الانتظار طويلا لوصف ما جرى في صيف 1894، لكن امرأة اسمها حادة الزيدية/خربوشة في ربيعها الثاني والعشرين، كلُّ زادُها من الثقافة، محفوظ الذاكرة الشفوي مما حفظته بالمسيد، وذخيرة من الأذكار المتداخلة مع أمثال العامة والحكايات والجروح و نهر من خيال لا محدود. لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولم تقرأ أو تسمع أو تحفظ أشعار العرب وأيامهم في الجاهلية، ولا علم لها من يكون المتنبي أو المعري أو شعراء بغداد ودمشق والقاهرة ومراكش وفاس، وتجهل من يكون ابن خلدون أو أبو القاسم الزياني أو محمد أكنسوس أو أحمد بن خالد الناصري، ولا تعرف من أسماء العلماء والفقهاء إلا فقيه الدوار المغمور وأسماء أولياء عبدة ودكالة والشاوية.
بل تجهل جهلا تامّا من تكون السيدة الحرة أو زينب النفزاوية أو خناتة بنت بكّار. إنها، فقط، امرأة من عالم البادية السفلي، معزولة عن العواصم والصالونات وعوالم المعارف العليا والخاصة التي تحفل بها المقررات وأحاديث النخبة.هذه المرأة سترمي بجملة واحدة، وحشية بلا زُخرف، حينما ذاع خبر وفاة السلطان مولاي الحسن الأول فجأة. جُملة طلعت مثل انفجار من رحم يُداري الراڭد بدهشاته: "واحَسَنْ آحَسَنْ..ما تْموتشْ حتى يسبقوك العديان".
ما كانَ عليكَ أن تموتَ الآن، وقد تركتَ المُستبدّين هنا وهناك أحياء.. سيأكلوننا في واضحة النهار. ثم صمتت لأنها كانت ترى الآتي بعد تلك اللحظة، فيما سيلتقط، تلك الجملة، الزجالون والمُنشدون الهائمون بسهول جمعة اسْحيم وبلاد احْمر وتراب الشماعية، فيغزلون على نولها باقي الكلام، ملحمة الوجدان الشعبي، رثاءً جارحا للراهن والمستقبل، في نبوءة مدهشة كتبَها المجاز البدوي ببلاغة لا حجاب معها حول اللحظة الصعبة التي صادفت موت سلطان حكيم في قمة عطائه، عرشُه فوق فرسه في تسع عشرة حرْكة بكل المغرب لإعداده قويا وتجاوز الأعطاب بعد هزيمتي إيسلي وتطوان، لكن موته في يونيو من تلك السنة ،وبشكل مفاجئ، يعني الكارثة المعجّلة، من علاماتها الأولى الصراع على الحكم بين الأبناء واستحكام الحاجب السلطاني بّاحْماد بالوصاية على أصغرهم، المولى عبد العزيز، ليكون سلطانا في بلاد على بوابة المجهول .
كان منسوب الإحساس بالخطر عاليا وكأن القيامة على الأبواب، فاختارت كثير من القبائل الاقتصاص من الظالمين، بالانتفاض على قصبات القيّاد في الشاوية ودكالة، بوصفها رمز الظلم. وشعرت قبيلة أولاد زيد العبدية، وهي ضمن نفوذ القائد عيسى بن عمر الثمري، بالإذلال والظلم بعد تعمُّدِه إقصاءهم من المسؤوليات وإثقالهم بالضرائب والسُّخرة إلى أن كسدت تجارتهم، وبدت الفرصة مواتية لإعلان انتفاضتهم بشكل متدرج و"ديمقراطي"، فراسلوا في يونيو 1895 السلطان الجديد ملتمسين عزل القائد عيسى واستبداله بآخر يكون عادلا، لكنهم لم يظفروا بالجواب. بل سيدركون أن المخزن المركزي كان في صفّه وداعما له، أو عاجزا عن تدبير مثل هذه الأزمات، فانطلقت الانتفاضة بفرسان أولاد زيد من مواقع استراتيجية بالساحل والكهوف وكل المداخل حيث يجيدون تنظيم غارات سريعة وموجعة استمرت سنة ونصف.قبل هذا التاريخ، كانت حادة الزيدية/خربوشة التي استكملت ما تيسر لها سمعا، في مسيد الدوّار ، شابّة تحيا مثل باقي النساء اللواتي ينخرطن في الأفراح والأحزان، وعلى مدار السنة في احتفالات مختلفة. ثم انتبهوا، رجالا ونساءً، إلى صوتها، دون الأخريات، وقد بدا لافتا وقويا،مميزا وقادرا على النفاذ إلى الأحاسيس، فجرّبتِ البراول والأناشيد والعيطات الصغيرة المتداولة بحنجرتها فقط، والتي هزّت المشاعر إلى أقصى درجات الانتشاء.
لم يكن دخولها مجال الغناء وارتجال "لكْلامْ" مما تعيشه ويحياه جيلها أمرا مجهولا أو مرفوضا، ولكن الفتاة تمتلك شيئا للبهجة بكلماتها التي تُزّف إلى صدرها، فتطلعُ في البداية ارتجالا ثم تستوي مع الإعادة شعرا وغناءً. وكانوا من حبهم ودُنوّهم من كلامها ودلالاته ينادون عليها باسم حوّيدة مرة وخربوشة مرة أخرى. اجتمعت فيها ثلاث صفات حققت لها الاحترام، فهي لم تكن فاتنة، بل قصيرة مكتنزة سمراء بشَعر مجعد ووجه مُخرّم بمسام بارزة. ثانيا، كان كلامها جديدا مثل نهر يجري أمامها حيث تكون، ثم ثالثا صوتها الذي سمعت به كل القبائل وباتت مطلوبة في عبدة والشاوية ودكالة والسراغنة والرحامنة. صغيرة السن لكنها شامخة وهي تغني في القصبات وفي أعراس العامة والمواسم المحلية والجهوية للفروسية، وقد استمع إليها عيسى بن عمر الذي عشق صوتها وكلامها وهو يشق الظلام فيطلع منه ضوء ينبت على حوافّه النوّار والغنباز.
كما عشقها ابنه الذي كان في يكبرها سنا وبادلته الحب من قلب الشاعرة ووصفته بأجمل الأوصاف. لكن رسالة فرسان قبيلتها إلى السلطان الجديد وقرارهم إعلان العصيان على سياسة القائد عجّلَ برجوعها لتنضمَّ إلى صفوفهم، تُلهبُ حماسهم وتنفض عنه الغبار لرفع الظلم بعدما تبيّن أن القائد عازم على إضعافهم وتشتيت وجودهم، وقد أشاع عنهم أنهم في تمرّد وسيبة وخارج حُكم المخزن والقانون، رغم ما كان يُبديه، ظاهرا، من رغبة في الصلح.تقول حْويدّة الزيدية/ خربوشة بشاعرية تُعلي من الإحساس بالقوة الجماعية، وكأنها ترسم بركانا يفيض خيالا وحّشيا، فتقول: لا أريد الحُكم والقانون إذا كان فيه إذلالنا، وأحب السبية إذا كانت طريقنا إلى الحرية، سنمنحُك أيها السيد ثمانية أيام لتعود عن أفعالك أو ستكون لنا قيامة لن تردّ قَدَرها، أنا عبدة عابدة لكل قبائل عبدة ولكنني لكَ لا ولن أكون:[ابْغيتْ السيبة/ما ابْغيتْ احْكام/من دابا ثمانية أيام/على السي عيسى الثمري. أنا عبدة لعبدة /ولسي عيسى لاّ /نوْضا نوْضا حتى لبوكشبور/ نوْضا نوْضا حتى دار السي قدور]. أعلنت حْويدّة الشاعرة بداية الانتفاضة بقيادة محمد بن ملوك، فحقق فرسان أولاد زيد انتصارات أسكنت الخوف في قلب عيسى الذي استعان بفرسان من خارج نفوذ قيادته ودارت حربا عنيفة كانت الغلبة للقائد بأسلحته وعدده، فدمّر حصونهم وقتل منهم ما لا يُحصى.
وحتى لا يقوم الفناء، قرر الباقون من أولاد زيد اختيار أحد الأمرّيْن والهروب تمهيدا للعودة. وفي هذه الفترة حيث الموت يختبرُ الحياة بعينيها الكُحليين، ارتفعَ صوت الشاعرة والمغنية قويا بقصائد أشبه بالجمر الذي لا رماد له، فينقل الثوار انتفاضتهم إلى ضواحي مدينة آسفي بحثا عن إرهاق القائد الذي كان مستقويّا بسلاح ودعم السلطة المركزية. هزمهم تباعا في مواقع فليفل والمكادم قبل أن يستفرد بهم في موقعة الضريرات، فبادر ممثل السلطة المركزية، باشا مدينة آسفي حمزة بن هيمة، بعد ذلك، إلى دعوة الطرفين للصلح، وكأنّ الأمر في تلك الجهة لعبة بين مستبد وثوار، وبعد نهاية الشوط يجدون من يدعو إلى فُسحة الحوار في مكان ارتبط بالمقدس، قُبّة أشهر أولياء المنطقة، سيدي بُومْحمَّد صالح.
كانت جلسة الصلح فرصة لربح الوقت وهو يدعي أنه سيصلح كل شيء، لكن أولاد زيد انتبهوا، بعد شهر واحد، أن الصلح كان امتصاصا لتلك الجمرة وأن عيسى لا يريد سلاما وإنما استسلاما كاملا تمهيدا لإعلان يوم القيامة بأولاد زيد ثم إفناءهم، فبرز ثائر جديد هو عبد القادر البوديني، رفقة ثمانية من أهم الفرسان، اعتبروا الصلح خيانة لأسرار القيامة، فعادوا إلى ساحاتهم يدكّون الأرض على القائد والسلطة المركزية على إيقاع النشيد الملحمي لخربوشة وضربات الدفوف ووقع سنابك الخيول وتكبيرات الفرسان. وبعد ثلاثة أسابيع، تمت الدعوة إلى صلح جديد برباط آسفي يوم تاسع نونبر 1895، داخل واحد من المخازن الشهيرة في ملكية أحد التجار الاسبان، لكن عيسى بن عمر في هذا الاجتماع كان له تدبيره الخاص، بحضور ممثل المخزن المركزي وبعض الأعيان من دكالة، وما أن شرع المتكلم"ولد الشُّرفة" في الحديث عن الصلح وأصوله، حتى بادرَ عيسى بمفاجأته المُرّة عامدا إلى الغدر بإخراج سيفه وضرب المتحدث فشقّهُ إلى نصفين، كما تروي الحكاية، ليقوم أصحابه إلى قتل الحاضرين العُزّل من أولاد زيد فتعمُّ الفوضى في يوم المخزن وفي ضريح الولي الصالح الذي استحرمَ به الفارّون، فكان قتالا دمويا استشهد فيه العديد من الفرسان، بالإضافة ما كان من تقتيل جرّاء الفوضى والرفس في الجموع المتجمّعة وسط المدينة بعد إغلاق الأبواب.
عنف وصخب ثم عويل وصمت في واقعة ستُعرَفُ بعام الرفسة، استُشهد فيها أشجع الفرسان من أولاد زيد واعتقال حوالي ألف تم توزيعهم على سجون أسفي والصويرة ومراكش والرباط وسجن البردوز بالقصبة، بينما فرّ من خشي الانتقام إلى سوس والشاوية وغيرهما طلبا للنجاة. أما الشاعرة حادة الزيدية/خربوشة فقد لاذت بالصمت والدموع في جنازة كبرى لم تسمع بمثلها مما كان يحكى عن مخلفات الجوائح والنكبات، لتصرخ من ألم جراحها بعيطة تمزّقُ المجاز وبقايا البلاغة القديمة، تهجوه بكلمات مثل الوشم على الجبين. [ سيـرْ آعيسـى بـن عمر/آوَكّـــال الجّيفــــه/آقتـّــال اخُّوتـــــو/آمْحَلّـــل لَحْـــرام/سيـر عَمَّـــرْ الظالــم/ما يــروح سالــــم/وعمَّـــر العلفــــة/ما تزيــد بـلا عْــلام/ وراه حَلفَتْ الجمعة مع الثلاث/يا عويسـة فيك لا بقات].
يتبع بالجزء الثالث والأخير