حين يتحوَّل التَّاريخُ إلى مِلكيَّةٍ شخصيَّةٍ للكاتِب،
القصص لـ جوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا
تقديم وتعليق: جواكِّينو لانتزا تومازي
صدر عن منشورات المتوسط -إيطاليا، كتابُ "القصص" للكاتب الإيطالي الشهير جوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا، صاحب رواية "الفهد"، وواحدٍ من أعظم ممثِّلي الواقعيَّة الجديدة كما يُصنَّف في إيطاليا. ترجمَ الكتاب عن الإيطالية الشَّاعر والمترجم السُّوري أمارجي، الحاصل على عدَّة جوائز أدبية في الشِّعر والتَّرجمة، وصدر من ترجماته الروائية عن المتوسط: "البحر المحيط"، لـ ألِسَّاندرو باريكُّو، 2017. "واحدٌ ولا أحد ومائة ألف"، لـ لويجي بيراندللو، 2017. "زهرة القيامة (عجائب الألفيَّة الثَّالثة)"، لـ إميليو سالغاري، 2018. وحديثاً: "الزَّمن الحسِّي لـ جورجو فاستا، وفي سلسلة الشِّعر الإيطالي: "هذا الجسد، هذا الضوء" لـ ماريَّا غراتسيا كالاندْرُونِهْ، و "شاربو النجوم" لـ إرنِستو رغاتْسوني، 2020.
في سنتين قاسيتَين وأليمتَين من سنيِّ حياته (1955-1957)، وضعَ لامبيدوزا إلى جانب الفصول الثَّمانية من «الفهد» ثلاثَ قصصٍ وسيرةً ذاتيَّة. في الآونة الأخيرة، وبعد اكتشاف بعض المخطوطات الأصليَّة، أمكنَ إخضاعُ النُّصوص لعمليَّة تحقيقٍ فيلولوجيٍّ صارمة، فاكتسب بعضها، وخاصَّةً «ذكريات الطُّفولة»، بناءً متماسكاً لم يكن له من قبل. يُفتَتَحُ كتاب «القصص» بذكريات الطُّفولة التي كُتِبَتْ في صيف عام 1955، وتتبعُها قصَّةُ «الفرح والنَّاموس»، وهي قصَّةٌ رمزيَّةٌ تتَّسم بأسلوبٍ وبناءٍ مثاليَّين. ولكنَّ القصَّة الأكثر شهرةً في المجموعة هي «السِّيَرانة» التي كُتِبَتْ بعد رحلةٍ على طول السَّاحل الجنوبيِّ لصِقِلِّية. في قلب هذه القصَّة، في الحدِّ الفاصل ما بين الواقعيِّ والسُّرياليِّ، تُطالعنا شخصيَّة العجوز لاتْشورا الذي وقع حين كان شابَّاً في حبِّ حوريَّة بحرٍ فأصبح عاجزاً بعدَه عن حبِّ أيَّة امرأةٍ أخرى. ويُختَتَم الكتاب بقصَّة «القطط العمياء» الأقرب من بين القصص الأربع إلى رواية «الفهد» من حيث الجوهر، وإن كانت قد كُتِبَتْ كفصلٍ أوَّل من روايةٍ كان يُفترَض أن تحمل الاسمَ نفسَه.
بتلذذٍ ومُتعةٍ، وبانعدامِ ضميرٍ، يحوِّلُ لامبيدوزا التَّاريخَ إلى مِلكيَّةٍ شخصيَّة. وببراعةٍ يزاوج ما بين التَّوليف المجازيِّ للشِّعر والدِّقَّة التَّوثيقيَّة للسَّرد التَّاريخيِّ. جميعُ الكتَّاب الذين تحدَّثوا عن «الفهد» - مِن إيوجينيو مونتالِهْ إلى مارغريت يورسنار، ومِن عاموس عوز إلى خافيير مارياس، ومِن ماريو بارغاس يوسا إلى خورخي غيين - يعبِّرون عن إعجابهم بكثافةِ القَصِّ عندَ تومازي دي لامبيدوزا، وبمساهمته في جعلِ بقاءِ الرِّواية التَّاريخيَّةِ أمراً ممكناً بِما هيَ تتابعٌ لوقائعَ محسوسةٍ، ولذكرياتٍ ذاتيَّةٍ تطفو بقوَّتها الخاصَّة المكتسَبَةِ من تجربةٍ تخيُّليَّةٍ واسعةٍ ولامُباليةٍ بالحيِّز المكانيِّ وبأحوالِ الزَّمن. أسلوبُهُ المفضَّلُ هو الحذفُ، تحويلُ المعقَّدِ إلى بسيطٍ، والعودةُ إلى رحمِ الإلهةِ الأمِّ. موهبتُهُ قويَّةٌ ومُقنِعةٌ، بديعةٌ كمثل تهويدة.
أخيراً وليس آخراً جاء الكتاب في 272 صفحة من القطع الوسط.
من الكتاب:
حدث ذلك في صباح الخامس من آب عندَ السَّادسة. كنتُ قد أفقتُ قبل وقتٍ قصيرٍ وصعدتُ دونما تأخيرٍ إلى القارب؛ بضعُ ضرباتٍ من المجذاف دفعَتْني بعيداً عن حصى الشَّاطئ وتوقَّفتُ أسفلَ صخرةٍ عظيمةٍ لأحتمي بها من الشَّمسِ التي كانت تبزغُ آنذاك، مُنتفخةً بأُوارِ غضبها الجميل، وتحوِّلُ إلى ذهبٍ وزُرقةٍ نصاعةَ البحرِ الفجريِّ. كنتُ أُنشِدُ الشِّعرَ عندما شعرتُ بهبوطٍ مُفاجئٍ لحافَّةِ القارب، ورائي، من جهة اليمين، كما لو أنَّ أحدهم تعلَّقَ هناك ليصعدَ. التفتُّ ورأيتُها: رأيتُ الوجهَ النَّاعمَ لفتاةٍ في السَّادسة عشرة من عمرها يخرجُ من البحر، ويدَين صغيرتين تمسكان بلوحٍ من ألواح القارب. كانت تلك الفتاة تبتسم؛ ثنيةٌ خفيفةٌ كانت تُباعِدُ بين الشَّفتين الشَّاحبتين كاشفةً عن أسنانٍ صغيرةٍ بيضاءَ وحادَّةٍ، كأسنان الكلاب. ولكنَّها لم تكن ابتسامةً كتلك الابتسامات التي يراها بعضُكم على وجهِ بعضٍ، تلك الفاقدةِ أصالتها تحت تعبيرٍ عرَضيٍّ عن المحبَّةِ أو السُّخريةِ أو الشَّفقةِ أو الوحشيَّةِ أو أيِّ شيءٍ آخر؛ ابتسامتُها كانت تعبِّرُ عن ذاتها فحسب، كانت أشبه بانتشاءٍ حيوانيٍّ بالوجود، أو قُلْ أشبه بغبطةٍ إلهيَّة. كانت هذه الابتسامة أوَّلَ سحرٍ يفعلُ فِعلَه بي كاشفاً لي عن فراديسِ صفاءاتٍ منسيَّة. مِن الشَّعرِ المبعثَرِ الذي بلون الشَّمس كان ماءُ البحر يهمي على العينين الخضراوين المفتوحتين، وعلى كلِّ ملامحِ النَّقاء الطُّفوليِّ.
عن الكاتب:
جوزيبِّه تومّازي دي لامبيدوزا، (1896-1957): أميرُ لامبيدوزا، ودوقُ بالما، وبارونُ مونتِكْيارو وتورِّيتَّا، وحاملُ وسامِ النَّبالةِ الإسبانيَّة من الدَّرجة الأولى، هو بالتَّأكيد واحدٌ من أعظم ممثِّلي الواقعيَّة الجديدة في إيطاليا. كان على معرفةٍ جيِّدةٍ باللُّغات الرَّئيسة، الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة، التي درسَها شابَّاً ثمَّ أتقنها بفضل قراءته أعمال الكتَّاب الكِبار في الأدب الأوروبِّيِّ بلغاتها الأصليَّة، وبفضل رحلاته المتكرِّرة إلى الخارج. ومن غرائب الصُّدَف ربَّما أن يتوفَّى لامبيدوزا بعيداً عن منزله، تماماً كما حدث لبطل روايته «الفهد» (صادرة عن منشورات المتوسط 2017)، في روما في 23 تمُّوز/ يوليو 1957، حيث ذهب لتلقِّي العلاج بعد تشخيص إصابته بسرطان الرِّئة. دُفِن جثمانه في مقبرة الكبُّوشيِّين بباليرمو، وغالباً ما يجد الزَّائر لقبره أزهاراً وضعها قرَّاءٌ وجدوا في نصوصه فقرةً ما عقدَتْ صلحاً بينهم وبين الحياة.